الإنسان بفكرته يشعر بضعفه،
وحاجته إلى ربه فى إعانته وتوفيقه ورعايته وحفظه، ولذا فهو يطلب التعرف إلى ربه،
والتعرف إليه بما يحب من أنواع القرب وضورب الطاعات والعبادات.
والإنسان بمواهبه، وأفكاره،
ومشاعره، وأحاسيسه، يطلب دائما المزيد من السمو والرفعة فى ذلك، حتى لا يريد أن
يقف عند أحد أبداً، فهو إذاً فى أحواله الثلاثة التى ذكرنا مفتقر إلى تشريع دينى
إلهى يلائم فطرته وينظم له علاقته فيما بين وبين أفراده الذين لا يستغنى عن
التعاون معهم لتوفير أسباب حياته. وبقائها صالحة فى هذا الوجود من مطعم، ومشرب،
وملبس، ومسكن، ومركب، ويمده بعلوم ومعارف عن ربه ولقائه، وعن كيفية عبادته ودعائه،
وذكره والتقرب إليه بفعل طاعته، وإتيان محابه، وترك مكارهه، واجتناب مساخطه، كما
يمده بفيض علمى كامل عن الحياة والكون يعرف به حقيقة الوجود، وعلة الكون والحياة،
وأسباب السمو والكمال، والهبوط والنقصان التى تطرأ له فى حياته الأولى والآخرة.
وبناءً على كل ما تقدم، فضرورة
الإنسان إلى دين إلهى صحيح أشد من ضرورته إلى العناصر الأولية لحفظ حياته من ماء،
وغذاء، وهواء، ولا ينكر هذه الحقيقة، أو يجادل فيها إلا معاند مكابر، لا يُؤْبَه
لعناده، ولا يُلتفت إلى جداله.
كما أن دعوى العقل فى إمكانه
الاستقلال بهداية الإنسان إلى ما يصلحه ويسعده، دعوى باطلة ساقطة لا وزن لها لا
واقع، وذلك لأننا رأينا الكثير من الأمم والشعوب لما فقدت هداية الوحى الإلهى لم
تُغْنِ عنها هدايةُ العقول شيئا، فضلت وهلكت، ومما قاله القرآن فى هذا الموضوع
قوله تعالى من سورة الأحقاف : {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِن
مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَا
أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ
إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ
يَسْتَهْزِئُون }الأحقاف26.
وذلك لأن العقول لا تهدى إلى
معرفة كل ما ينفع الإنسان فى حياتيه ليأخذ به. ولا إلى معرفة كل ما يضر الإنسان فى
حياتيه كلتيهما ليتجنبه. وينجو مما يضره إلى فى ضوء الشرع الإلهى. ونور وحيه؛ لأن
العقول لا تعدو كونها آلة إدارك كحاسة العين التى هى آلة إبصار. والعين قطعا لا
تبصر مهما كانت سليمة وقوية إلا فى الضوء والنور، ولا يمكنها أن ترى وتبصر فى
الظلام أبدا. وفى أى حال من الأحوال العقل مثل العين سواء بسواء. كما أن العين لا
تبصر إلا فى الضوء والنور، فإن العقل لا يدرك إلا على ضوء الشرع الإلهى ونور وحيه
تعالى إلى أنبيائه ورسله. ومن رأى غير هذا فإنه يغالط نفسه ويكابر فى شيء من الخطأ
ومن الضلال المكابرة فيه؛ لكونه من المحسوس المشاهد.
كما أن دعوى الاكتفاء بالعلم عن
الوحى الإلهى الذى تمثله الشرائع الإلهية الصحيحة، السليمة من التحريف والزيادة،
والنقص، والتبديل- كالدين الإسلامى مثلاً- دعوى باطلة قطعاً، ومن وجهين أيضاً:
الأول: أن ما عند الناس من بعض
العلوم، والمعارف فى الفنون والأخلاق، والآداب إنما هو – بدون شك- مأخوذ من الوحى
الإلهى، إما بالنص اللفظى، او بالاستنباط. وإنما نسب إلى بعض الأشخاص مغالطة
وتضليلاُ لا غير.
والثانى: أن العلم المادى مقصور
على نفع الإنسان فى الجانب المادى منه، وهو الجسم ومتطلباته. وأما الجانب الروحى
-وهو الأهم قطعاً- فإن العلم المادى لم يخدمه فى شيء، ولم يقدم له أى نفع
البتة؛ لأنه لم يكن روحياً مجانساً للروح فيقدم له ما هو فى حاجة إليه.
إن العلوم الإنسانية الخالية من
الوحى الإلهى لم تَعْدُ الكشف عن بعض الظواهر الكونية المادية
فقط. {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ
الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ }الروم7.
فكيف إذاً تستطيع أن تقدم أى
خدمة للروح، وهى لم تكسر حجاب المادة بعد، ولم تعرف أى سر عن حقائق الكون وعلله.
وقد اعترف علماؤها بالعجز
الكامل عن معرفى العلل والأسرار لأية ظاهرة من ظواهر الكون فقالوا: اسألونا بكيف،
لا بماذا؟ يعنون قولوا لنا: كيف وقع الشيء الفلانى؟ فإنا نجيبكم. أما لماذا وقع؟
فإننا لا نعرف الإجابة عنه، ولا نملكها أبداً؛ ولذلك لحرمانهم من علوم الوحى
الإلهى.
وشيء آخر، أليست العلوم المادية
قد بلغت الذروة فى الكمال بعد أن قطعت شوطاً بعيداً فى التطور والشمول فى كل
المجالات، ومع هذا الكمال فإن البشرية فى شقاء دائم، ولم تخطو يوماً خطوة إلا إلى
شقاء آخر أكبر، والواقع يشهد. وكفى به شهيدا؟ ولذا فإنه لا مناص من الاعتراف
بالحقيقة والتسليم بها. وهى أن الدين الحق ضرورى للإنسان، لا غنى له عنه بحال من
الأحوال وأن كمال الإنسان وسعادته متوقفان عليه توقف المعلول على علته. والمسبب
على سببه.