إن المسلك السهل- والسليم فى آن واحد – للبحث عن الإيمان بالله تعالى أى عن وجوده تعالى، والتصديق به عز وجل رباً وإلهاً، هو مسلك احترام العقل البشرى، وقبول أحكامه التى يصدرها على الأشياء نفياً أو إثباتاً، وجوداً أو عدماً، ومن ذلك: حكمه الواضح الصريح بوجود البارى عز وجل، وبوجوب معرفته وطاعته، والتقرب إليه، والأخذ بهدايته، والسير فى طريق أوليائه من صالحى عباده.
ولنستمع إليه - العقل – وهو يورد أدلته، ويقدم شواهده، ويظهر بيانه، ليصدر بعد ذلك حكمه النهائى فى قضية الإيمان بالله تعالى، وأسمائه وصفاته، ووجوب طاعته وعبادته، والأخذ بهداية وحيه، واتباع شرعه: إنه يقول بمنطقه السليم: إن السماء التى تظلنا، ونشاهدها بحواسنا، ونراها بأم أعيننا، ولا نستطيع عدها لكثرتها، ولا حدها لبعدها وعلوها. هذه السماء يقول – العقل - : إنها موجودة فعلاً، ولا سبيل إلى إنكارها بحال من الأحوال، فمن أوجدها؟؟
ويقول: هذه الأرض التى نعيش عليها وهى موجودة فعلاً، ولا معنى لإنكارها أبداً، فمن أوجدها؟؟
ويقول: هذه الكائنات الحية على تباينها، واختلاف أنواعها، من أرقاها وهو الإنسان، إلى أدناها: كالنحلة، والنملة، والعنكبوت، وهى موجودة فعلاً، لها غرائزها، ومداركها الخاصة، وأنظمة حياتها، وطرق معاشها، وحفظ أنواعها إلى آجالها، ولا مجال لإنكار ذلك بحال، فمن أوجدها؟ ومن وهبها حياتها؟ ومن خلق لها أرزاقها، وهداها إلى طلبها، والحصول عليها، والانتفاع بها فى حفظ نوعها واستمرار وجودها؟ إن العقل يقول: ابحثوا عن الموجد، عن الخالق، عن الرازق، عن المدبر، عن المنظم، عن المسخر، عن خالق الكون، عن واهب الحياة لكل ذى حياة، وعن سالب الحياة من كل من وُهِبَتْ له، ومُتِّعَ بها مدة حياته الموقوته، وفترة عمرة المحدود.
ابحثوا، واطلبوا، واستقصوا فى البحث والطلب، واعلموا أنه لا يوجد شيء موجود أوجد نفسه بنفسه، ولا كائن كوَّن نفسه فى هذه العوالم الموجودة، والكائنات المشاهدة المحسوسة أبداً.
ابحثوا عن خالق، رازق، مدبر، ذى إرادة، وحكمة، وعلم، وقدرة، يخلق، ويرزق، بعلم وقدرة، ويبدع، وينظم، ويدبر بإرادة وحكمة. ابحثوا عنه، ولا تستهينوا بالعقل أو تزدروه، وأنتم تعلمون أن أحدكم إذا فقده أصبح مجنونا، مختل التفكير والتقدير، مسلوب الإرادة والتدبير، يهْرُفُ بما لا يعرف، ويرمى إلى ما يهدف، فتقولوا: إن الموجودات أوجدت نفسها بنفسها، أو تقولوا: إنها وُجدت بدون مُوجِد، فإن ذلك مُزرٍ بكم، مخل بكرامتكم، خارج بكم عن دائرة العقلاء من بنى الناس أجمعين، لأن العقول كلها مطبقة مجمعة على أن الشيء لا يُوجِد نفسه، كما أنه لا يوجد بغير موجد {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ }الطور35. إنكم تقرون أن جميع الكائنات التى تخضع للحس والمشاهدة مادة، والمادة ميتة قطعاُ، والميت لا يخلق الحى، وكيف يهب الحياة من هو ميت؟!
وزيادة فى التثبيت من هذه الحقيقة – وهى أن الشيء يستحيل أن يخلق نفسه، وأن كل موجود لا بد له من موجد- نقول: إنه لما لم نجد للكائنات موجداُ لها من نفسها اضطررنا إلى الإيمان بوجود إله قوى، قادر، ذى إرادة، وعلم وحكمة، وهو الله الذى أخبرنا بواسطة كتبه التى أنزلها، وأنبيائه الذين أرسلهم أنه رب كل شيء، وخالق كل شيء، وأنه هو بديع السماوات والأرض، ومدبر الأمر فيهما، له وحده الخلق والأمر، وهو على كل شيء قدير. وزيادة فى التثبيت والتقرير، نهبط إلى عالمنا الأرضى هذا، وننظر إلى الأشياء الموجودة فيه وهى لا تُعَدُّ كثرة، هل نجد بينها من يخلق نفسه بنفسه، أو يخلق غيره.
فها هى ذى النباتات على كثرتها، واختلاف أجناسها، وتنوع أفرادها لا تخرج عن سنة وجودها التى سُنَّت لها، واطردت فيها، وهى وجود تربة صالحة، وماء كافٍ لسقيها، ومناخ طيب صالح للحياة والنماء فيه مع تقدم وجود البذرة الحية بالقوة المكفورة – المغطاة - بالتربة الملائمة لإنباتها، إن النباتات بهذا هى مفتقرة إلى عناصر شتى، وهى البذرة، والتربة، والهواء، الماء، لم تكن لتوجدها النباتات لنفسها، فكيف يصح إذاً أن يقال أنها خلقت نفسها بنفسها، اللهم إنه لا يقول بهذا إلا مجنون أو مغرور يجاحد أو يعاند!
وها هى ذى الحيوانات على اختلافها، وكثرة أفرادها، من أرقاها وجوداً وحياة، إلى أهبطها حياة ووجوداً، لا يوجد بينها حيوان واحد يخلق نفسه بنفسه. وإنما جميعها وكل واحد منها تبعاً| لسنة الخلق فيه، والمطردة فى كل أفراده، وهى بالنسبة إلى الإنسان الذى هو أرقاها وأفضلها، وجود نطفة من أبوين ذكر وأنثى، واستقرارها فى الرحم المعدة لها، وتطور تلك النطفة من حال إلى حال إلى أن يتم الخلق، ويخرج الإنسان طفلاً صغيراً، ثم ينمو حسب النمو إلى أن يبلغ أشده، فيكتهل ويهرم ويموت، وهو فى كل ذلك الخلق والتطور والنماء والكمال والنقصان والموت والفناء: لا يملك من أمره شيئاً.
فهل يعقل أن يقال: |إن الإنسان خلق نفسه بنفسه. وإذا بطل هذا فى الإنسان، فهل يصح فيما دونه من سائر الحيوان؟ اللهم لا، وإذاً فهل يعقل أن يتم الخلق والإيجاد بدون ما خالق ولا موجد؟ اللهم لا، حتى ولو كان المخلوق نحلة، أو الموجود فنجان قهوة، وهل يوجد عاقل فى دنيا الناس يرى موجوداً عظيماً كعمارة ضخمة، أو دون ذلك كرغيف خبز، ثم ينكر أن يكون له موجد أوجده؟ ويعتذر عن إنكاره وجحوده بأنه لم يَرَ موجده ولم يشاهده، اللهم لا. وإذاً، فكيف يعقل الكفر بوجود الله خالق كل شيء لمجرد أن لم يُرَ فقط؟ مع أن هناك نفس الإنسان التى بين جنبيه، قد آمن كل إنسان بوجودها ولم يرها إنسان قط، وهناك العقل البشرى لم ينكره أو يكفر به أحد قط مع أنه لم يُرَ قط. وآمن بكل من النفس والعقل لوجود آثارهما الدالة عليهما. وكم من موجودات آمن الناس بموجدها ولم يروها قط. وذلك لدلالة وجودها؛ إذ العقل يحيل وجود أى شيء بدون موجد، كما قال تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ }الطور35.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق